hagar-gallery.com

Tal Ben Zvi, 2009. "The Photographic Memory of Asad Azi" ,
From: Exhibition catalogue, Asad Azi, My Father is a Soldier, The Ramat-Gan Museum.

طال بن تسفي، 2009. "الذاكرة التصويرية لدى أسد عزّي"،
من كتالوج المعرض: أسد عزّي، والدي جندي، متحف رمات غان.

טל בן צבי '2009. "הזיכרון הצילומי של אסד עזי",
מקטלוג התערוכה: אסד עזי, אבא שלי חייל, מוזיאון רמת גן.

English Text טקסט בעברית العربية Images

"الذاكرة التصويرية لدى أسد عزّي"

طال بن تسفي

 * من كتالوج المعرض "أسد عزّي، والدي جندي"، 2009 متحف رمات غان.[1]

 

معرض "والدي جندي" هو معرض مكتنز يقوم على أربع مجموعات رسم أساسيّة تشمل رسومات الجنديّة، رسومات العائلة، سلسلة فينوس ومجموعة حمار المسيح. ربما يكون، من خلال مشاهدة هذا المجموع الرسميّ، أنّ أسد عزي يقوم في العقد الأخير باستخدام متزايد لصور من ألبوم الصور العائليّة كمصدر مركزي لأعماله. كلّ صورة تظهر في عدد كبير من الرسومات متشابهة الموضوع، ولكن الفنان يستخدم أساليب رسم مختلفة. ويكشف هذا التسلسل لغته الفنيّة المتميزة وكذلك موقفه المتغيّر في إزاء الذاكرة البيوغرافية النابعة من الصورة.

يتمحور هذا المقال حول ثلاث صور فقط من الألبوم العائلي، والتي يعود إليها عزي في أعماله. إنّ الصور الثلاث هي بالأسود والأبيض، وأنتِجت من خلال ارتباطها بالحياة العائليّة اليومية وليس بالأحداث التاريخية العامة. تشكّل هذه الصور نواة "الجنديّة" التي تظهر في أعماله، إذ أنّها تربط ما بين موت الوالد، يُتْم الابن وشخصيّة الابن التي تستمرّ في تتابع متواصل، بمصير بيوغرافيّ ورمزيّ لوحدة عائلية نواة واحدة.

 

ثلاث صور: شخصيّة الوالد، الابن البكر والابن المُتابع

في الصورة الأولى (صورة 1) التي تعود إلى سنة 1956 يبدو الوالد الجندي وهو يرتدي البزّة العسكرية ويقف في موكب عسكري لحرس الحدود. مصدر الصورة غير معروف، ويبدو أنّ المصوّر هو واحد من الجنود الذي أعطى الصورة لعائلة عزّي. صياح عزي يقف في الصورة بدون سلاح، منتصب القامة، ويظهر ظلّه بوضوح على مسطح الصورة الساطع والمحروق. أمامه فضاء فارغ، وخلفه ما يشبه قاعدة عسكرية، عدّة أشجار، تخشيبة وجندي يحمل سلاحًا، حيث يقف هو أيضًا مشدودًا أمام عمود، يرتفع فوقه علم غير معروف التفاصيل.

هذه هي إحدى الصور القليلة التي يظهر فيها والده، صياح عزي، درزي من أصل سوري، قدم من سوريا إلى شمال البلاد خلال 1948 وبقي مع انتهاء الحرب في شفاعمرو لأنّه رغب في البقاء قريبًا من إخواته اللاتي تزوّجن من دروز على هذه الجهة من الحدود. في الخمسينيّات تجنّد الوالد لحرس الحدود. خدم على امتداد عقد في وحدة شرطة على الحدود الشمالية مهمّتها هي منع التسلّل. في 30 أيّار 1961 قُتل برصاص أطلقه جنود دوريّة سوريّون على الحدود الشمالية.[2] كان عزي حينذاك في الخامسة من عمره، الابن البكر بين أربعة أولاد (أسد، إبراهيم، فارس وهايل)، وبعد وفاته وُلد الأخ الصغير صياح، الذي سُمّي على اسم الوالد المتوفّى. وهكذا بقيت الوالدة، أكابر، مع خمسة أولاد يتامى.

في الصورة الثانية (صورة 2) التي تعود إلى سنة 1962، بعد وفاة الوالد بسنة، يظهر عزّي ابن السنوات السبع جالسًا على دراجة هوائية بين شقيقيه الصغيرين، إبراهيم ابن الست سنوات وفارس ابن الخمس سنوات. يظهر الأولاد الثلاثة في الصورة وهم يرتدون قمصانًا مخطّطة متشابهة. إنها صورة داخلية، فخلفهم تظهر كومة من الفرشات.

هناك عنصران يلاحقان العين ويجعلان من الصورة المأخوذة من الألبوم العائلي صورة استثنائيّة: العنصر الأول هو حقيقة أنّ عزي يظهر فيها على زيّ بنت مع شعر طويل وعلى رأسه دبّوس فراشة أبيض مخرّم، والعنصر الثاني هو حقيقة أنّ عزي الطفل يحمل مسدّس والده العسكريّ. المصوّر هنا هو شاب يهوديّ من أصل عراقي اسمه حبيب، كان يمرّ حينذاك بين بيوت شفاعمرو ويلتقط صورًا عائليّة.

منذ ولادته وحتى سنّ سبع سنوات لم تُقصّ ضفائر عزي. السبب في ذلك هو قصّة حميمة ترتبط بظروف ولادته: قبل أن يولد أجهضت الوالدة ولدين وبعدهما ولدت بنتًا توفيت بسبب تعقيدات طبيّة وكان عمرها أربعة أشهر.. بعد ذلك بثلاث سنوات تمكّنت الوالدة من الحمل ثانية، وحفاظًا على الجنين في رحمها نذرت للنبي شعيب، نبي الدروز، بأنّها لو أنجبت الطفل فلن تقصّ شعره حتى يصبح في السادسة من عمره، وعندها ستقصّ شعره في مقام النبي شعيب وتقدّم خرافًا كأضحية. بعد أن بلغ السادسة بدأت نساء العائلة بالإعداد للمناسبة، وقبل الموعد بأسبوع قُتل والده. ألغت والدته الحفل وأبقت على شعره الطويل بالرغم من رجاءات أبناء العائلة. عزّي يقول إنّ الوالدة انتظرت ردّ النبي شعيب. وفي مساء ما وقف عزّي على شرفة بيته وراح يتأمّل منشفة بيضاء، وفجأة رآها تتحوّل أمام ناظريه إلى تيس أبيض. في اليوم التالي توجّهت الوالدة إلى مقام النبي شعيب، قدّمت الأضحية وقصّت شعر ابنها.

الصورة الثالثة (صورة 3) التُقطت في 19 تشرين الثاني 1985، في حفل إنهاء دورة ضبّاط للأخ الصغير صياح، الذي ولد بعد وفاة الوالد وحمل اسمه. تظهر في الصورة الوالدة في المركز، تعتمر غطاء أبيض طويلاً على رأسها وترتدي فستانًا طويلا. هذه لحظة عائلية هامة بالنسبة للوالدة: الابن الصغير يذهب في أعقاب الوالد. وهو يقف دون سلاح، يمسك بكتفيّ والدته وهي تحتضنه عند الخصر. خلفهما ستة رجال شباب: الشقيقان، إبراهيم وفارس، ابن العمّ وصديقان آخران، رافقوا الوالدة إلى حفل إنهاء الدورة. فارس، أحد الأخوة، يضع يديه بحميميّة على أكتاف الرجال الواقفين إلى جانبه.

صياح عزي، الابن، خدم في حرس الحدود لسنين طويلة حتى خروجه بدرجة كولونيل عام 2005، التُقطت الصورة قبل الحفل وربّما بعده، وليس فيها ما يشير إلى المكان الذي تمّ الحفل فيه. تشخيص الجنديّة يقوم على شخصيته التي ترتدي البزة العسكرية، الحذاء العسكري، القبعة على الكتف، ووسام حرب "سلامة الجليل" الذي مُنح له بعد سنة 1982 وهو مثبت على جيب القميص. في الصورة يبدو أبناء العائلة والأصدقاء كوحدة واحدة: يحتضنون بعضهم. المصوّر غير معروف، ربّما كان أحد أبناء العائلة أو أحد الأصدقاء.

يخلق اختيار الصور دائرة مقفلة من الرجوليّة، تبدأ بشخصية الوالد الجندي، مرورًا بشخصية الابن البكر الذي يحمل مسدسًا إلى جانب أخويه الصغيرين، ووصولاً إلى شخصية الابن الوارث الذي يحمل اسم الوالد، الواقف بثقة إلى جانب والدته، محاطًا بأبناء العائلة الذين يؤلفون خلفه جدارًا واقيًا حميميًا وقريبًا.

 

الجنديّة

كان تجنّد الوالد لحرس الحدود بعد العام 1948 لحظة مؤسّسة في مستقبل الأبناء الأيتام الخمسة، وفي حياة عزّي، لأنّ هذه اللحظة موضعت "الجنديّة" في قلب العائلة خالقةً فيها رابطًا بين الهويّة والرجولية وبين الجندية. بودّي التوقّف عند هذا القرار المصيريّ الذي اتخذه الوالد، وأكثر من ذلك عند الظروف التاريخية المحيطة بالمرحلة قيد الحديث في شفاعمرو التي تحوّل الكثير من سكّانها إلى لاجئين بعد 1948.

بقيت شفاعمرو بعد 1948 مدينة مختلطة سكّانها مسيحيون، دروز ومسلمون.[3] فقد سكن فيها قسم من سكان المنطقة العرب الذين تحوّلوا إلى "حاضرين غائبين" في قراهم المدمّرة. هناك قسم آخر – اللاجئون - الذين عادوا خلال الحرب أيضًا، وانتظروا سدى لمّ شمل للعائلات مع عائلات في لبنان وسوريا. يمكن التخمين أنّ صياح عزي هو سوري الأصل لم يكن لامباليًا حيال مصيرهم. عزّي، الوالد، بقي يعيش في شفاعمرو. كساكن غريب ليست لديه أرض زراعية ولا عائلة موسّعة كان عليه أن يعتاش وأن يعيش في الواقع المركّب الذي نشأ بعد النكبة، تحت حكم عسكريّ لم يُرفع سوى عام 1965.

يشير صبري جريس إلى أن الحكم العسكري سيطر على مناطق واسعة في الدولة (في الجليل، المثلث والنقب) من خلال استخدام صلاحيات إدارية واسعة جدًا وشبكة خاصة من المحاكم العسكرية، لكنه كان يُطبّق على المواطنين العرب الذين كانوا يعيشون في تلك المناطق فقط. واعتادت الشرطة العسكرية الصعود إلى باصات وسيارات أخرى في منطقتي الناصرة وشفاعمرو بشكل روتينيّ، إصدار أوامر للعرب بالنزول، وفحص هويّاتهم بتشدّد. وكلّ من كان يُقبض عليهم بدون تصريح من الحاكم العسكري يسمح لهم بالخروج من منطقة سكناهم، كان يتمّ اقتيادهم إلى الاعتقال وتقديمهم للمحاكمة أمام محاكم عسكرية. قسم من أبناء الطائفة الدرزية سُمح لهم بالتحرّك بحريّة، في مناطق الحكم العسكري وخارجها وذلك في إطار سياسة الهدف منها إظهار الدروز كشعب مختلف، والتشكيك في انتمائهم للأمّة العربية. استمرارًا لتلك السياسة، أُعلن عام 1957 عن الدروز كـ"طائفة دينية معترف بها". بعد الاعتراف تقرّر أن يُسجّل في بطاقات الهويّات وسائر الوثائق الرسمية كلمة "درزي" في خانة القومية، خلافًا لـ"عربي". (جريس، 24، 1966)[4]

 على خلفيّة من البطالة القاسية في شفاعمرو ومنطقة الجليل، بدأ يُمارس ضغط كبير جدًا على شبّان دروز كي يتجنّدوا للجيش. وتقرّر في إطار التجنيد استخدام القوة من خلال الشرطة التي قامت باعتقالات، وفتحت ملفّات جنائية لرافضي التجنيد. ضمن محاولات الإقناع أُطلقت وعود للشبّان الدروز بمنحهم أفضليات جدية جدًا خلال الحكم العسكري، وذلك في مقابل التهديدات التي أطلقت نحو الجمهور الدرزي، ستُصادر بموجبها ممّن لا يخدمون في الجيش تصاريح التحرّك وستُفرض عليهم عقوبات إضافية. [5]

وعلى هذه الخلفيّة سيتجنّد صياح عزي لحرس الحدود، يخدم على الحدود الشمالية، ويُقتل عام 1961 مقابل مناظر سوريا الطبيعية، مسقط رأسه. إذًا، فالجندية، حينذاك واليوم، جسّدت صراعًا مركزيًا بالنسبة لشرائح في المجتمع الدرزي، من خلال التوتّر ما بين الانتماء للمجتمع الإسرائيلي وبين الانتماء للمجتمع العربي. ولكن منذ الستينيات كان يمكن القول إنّ تماثل قسم من المثقفين الدروز مع الحركة الوطنية العربية كان دليلاً واضحًا على التوتّر الداخلي القائم في الطائفة بشأن مسألة الهويّة، وعلى أنّ مسألة عروبة الدروز لم تختفِ. (كوهين، 2000، 196-192).

ظلّت مشكلة التجنيد الدرزيّ يشغل المجتمع العربي في إسرائيل بشدّة في جميع حروب إسرائيل، وخصوصًا حول الحرب على الحدود الشمالية في سوريا ولبنان. فقد جرى هناك لقاء غير عاديّ بين أقارب عائلتي دروز التقوا أحيانًا في المعركة. يكتب سلمان ناطور، كاتب درزي من دالية الكرمل، عن حرب لبنان الأولى:

1982 كان حزيران حارًا كعادته..... الطائرات التي حلقت في سماء قريتنا كانت محمّلة بالنار والنابالم لتفرغ حمولتها على أرض لبنان الأخضر.

 بدأت في الرابع من حزيران ولم تتوقّف منذ ذلك الوقت، ولمّا اشتعلت النيران خيم على دالية الكرمل جو خانق من الحزن والخوف وصارت الشاحنات العسكرية تحمل الشبان المجندين إلى جبهة النار وتترك الأمّهات يذرفن الدموع.

لماذا يأخذونهم إلى الحرب؟

.....لنا جارة ولدت في لبنان وأجبرت على الزواج من رجل لا تحبّه وأنجبت منه ثلاثة أولاد.

 أحبّت رجلا آخر فحملها معه إلى فلسطين عام 1948 وتزوّجها وسكنت في بلدنا وأنجبت منه ثلاثة أولاد.

أولادها الذين تركتهم في لبنان، كبروا وصاروا مقاتلين في الحزب الاشتراكي التقدّمي، وأولادها الذين ولدوا في دالية الكرمل جنّدوا في الجيش الإجباري وحملتهم الشاحنات الإسرائيلية ليقاتلوا في لبنان.

في صباح الخامس من حزيران جئت إليها فوجدتها تقبع في منزلها وحيدة.

جلست على الأرض حانية ظهرها وأمسكت في يدها منديلا مبلّلا وكانت الدموع تسحّ من عينيها دون انقطاع ولم تنبس بكلمة.

"لماذا تبكين يا جارتنا؟"

 سألتها، فرفعت رأسها ومسحت الدموع عن خديها وقالت وهي تجهش:

"على الأولاد!"

كنت بحاجة إلى شجاعة لا حدود لها كي أسألها:

على أيّ منهم تذرفين دموعك، على أولئك الذين ظلّوا هناك أم أولئك الذين حملتهم الشاحنات إلى لبنان؟

لم أجرؤ.

 انتظرت أنا عودة أولادها كما انتظرتهم هي لنسأل سؤالاً واحدًا:

"هل قتلتم أحدًا هناك؟"

 (سلمان ناطور، 1998)[6]

ورد التعاطي مع هذه الجنديّة المشحونة في عدد كبير من النصوص الأدبية بالعربيّة، وفي عدد من المشاريع الفنية.[7] أحد الأمثلة هو مجموعة قصصية لنعيم عرايدي، شاعر وكاتب درزي من المغار بعنوان "جنود المياه". حيث يصف هناك جنودًا تلفهم مياه بيضاء خارجة من البحر؛ صورة مجرّدة بعيدة جدًا عن أيّ صورة للعسكرة العنيفة وتشدّد بقوّة على خمول الراوي حتى عودته إلى القرية. (عرايدي، 1988)[8]

الابتعاد عن العسكرة والتشديد على الثمن الشخصيّ المرافق للجنديّة في الجيش الإسرائيلي يتجسّدان في مسرحيّتين باللغة العربية عُرضتا في مسرح النقاب في عسفيا في السنتين 2002-2003. تتناول مسرحية "الأمر" من تأليف د. مسعود حمدان وإخراج صالح عزام المواجهة بين جندي درزي يُهدم بيت أخيه وبين ممثّلي الشرطة العسكرية الذين يأتون إلى القرية مع أفراد شرطة حاملين أمر الهدم يرافقهم بلدوزر.[9] أمّا مسرحية "صالح يعود من الجيش" فهي إعداد للكتاب المناهض للحرب "جوني يعود من ساحة المعركة"، تأليف دلتون تريمبو. تعرض المسرحية قصّة صلاح، شاب درزي يتجنّد للجيش ويعود مع إصابة بالغة، جسدية ونفسية. صالح يكشف المأساة الكامنة في الحرب، فظائعها والثمن الذي يدفعه الإنسان البسيط حين يشارك فيها.[10]

 هاتان المسرحيّتان لا تشكّلان استثناء. هناك جدل مشابه يدور على مدار السنين في الصحافة العربية، إذ يُخرج صورة الجندي من الخطاب العسكري-القومي، ويشدّد في المقابل على ثمن الجنديّة كتضحية وصورة الجندي كضحية لظروف تاريخية، ثقافية وسياسية تعود إلى العام 1948 ولا تلوح نهايتها في الأفق بعد.

 

رسومات الوالد الجندي

الجنديّة هي موتيف يتكرّر في صور الألبوم الثلاثة المنفردة التي اختارها عزّي كأساسٍ لرسوماته. ولكن يبدو أن كلمة "جندي" التي ترافق الأعمال منفصلة عن المنظومة الدلاليّة المرافقة للجندية. صور الوالد وصور الابن تقف وحيدة ومنفصلة عن الوحدتين العسكريتين اللتين خدما فيهما، ولا يحمل أيّ منهما السلاح. السلاح الوحيد الذي يظهر في الصور يحمله الطفل، الابن البكر، وهو دالّ فقط وليس أداة قتل.

في سلسلة الصور التي تظهر فيها شخصية الوالد الجندي، يبدو وكأن عزي يخلق مواجهة ما بين أسئلة الفن الداخلية كالمنظور، اللون، الشكل والنص وبين حضور الوالد شديد الواقعية. يشدّد عزي على الحفاظ على مقاييس الصورة الأصلية، أحادية اللون المرافقة لها، وكذلك على المقياس الإنسانيّ لحجم الصورة مقابل نظرة المشاهد. هذا الموقف في الرسم يحفظ مكانة الصورة الأصليّة كشهادة على حضور الوالد في حياة الفنّان، ولكن عزي يضع في مقابل هذه الشخصيّة سلسلة الرسومات "دلائل حرب"، الملوّنة القاطعة.

في الرسمة (صورة 4) تبدو صورة الوالد مكبّرة في التخطيط، وعليها حلقات ملونة تخلق موتيف "دلائل الحرب". على الخيش نفسه يوجد نصّ بالعربية ينساب حول تشبيه الوالد ولا يغطيها، وعلى الحلقات الملوّنة نصّ بالانجليزيّة يقطع شخصيّة الوالد بخطوط. عزي يتوجّه مباشرة إلى والده باللغة العربية واللغة الإنجليزية. وهو يضع مقابل دلائل الحرب نصًا شخصيًا يشير إلى أنه على الرغم من السنوات الخمسين التي مرت منذ وفاة الوالد، فإنه يشعر بأنّه هشّ، متروك ووحيد. لا يقع الانكشاف والحميمية في هذه الحالة باللغة العربية. في إحدى الرسومات (صورة 5) تظهر شخصيّة الوالد في تخطيط على الخيش كلّه؛ القماش يغرقه ما يشبه لونًا أحاديًا بنيًّا، إلى اليمين تتكرّر "دلائل حرب" ثانية، بألوان متعدّدة وقد كُتب عليها بالإنجليزية: YOUR DREAM KILLED MY HAPPINESS . يظهر الرمز دلائل حرب في عمل إضافيّ أيضًا (صورة 6) الذي تظهر فيه شخصية الوالد ببزّة بنية، بينما الشجرة الواقعة خلفه مزيّنة بأوراق خضراء، خطوط بالأسود والأخضر وعليها يمتدّ ظلّ الوالد. يموضع في العمل (صورة 7) "دلائل الحرب" الملوّنة على شبكة فوق صورة أو تخطيط لشخصية الوالد التي تغطّي الخيش كله. من غير المؤكّد في رسمة الشبكة المشدودة فوق شخصية الوالد، ما إذا كانت تصطاده أم أنها تحاول القبض على شخصيّته أم فهمها في إطار نسب الأبعاد في الرسمة. دلائل الحرب في الرسمة تقع فوق الشبكة، في مكان غير منطقيّ، بالضبط مثلما أنّ ألوانها المتعدّدة تبدو غير منطقيّة.

يرمز عزي لدلائل الحرب في أعماله بـ"مساحة مقسّمة إلى مقاطع الألوان". مقاطع الألوان ليست ارتجالا تاليًا للأصل، ليس هناك منطق في اختيار الألوان، وبذلك فهو ترميز لحرب لا مبرّر ولا معنى لها. الدلالة المُشفّرة لحروب إسرائيل كدلالة للفرق بين من قتل في الحرب وبين من قضى بحادث تدريب أو بحادث طرق لا تجد تعبيرًا عنها هنا. حلمك بأن تكون جنديًا، يدعي الابن اليتيم أمام والده، قد قتل سعادتي. لكن الوالد يقف أمام النص بيدين خاويتين، دون علم، دون سلاح، إنه لا يقتل أحدًا وليس شريكا في أيّ عمل بطولي.

مقاطع اللون هذه تذكّر برسومات "لوائح الألوان" لدى غيرهارد ريختر في التسعينيات. كان في صلب اللوائح أسلوب قرعة بين عينات لون تُباع في المتاجر.[11] أحاسيس القرعة، أو بالأحرى نتائجها، التي تحدّد عشوائيًا اختيار اللون، موجودة لدى عزي أيضًا، وتلقي بضوئها على انعدام المعنى في موت الوالد، وعلى أنّه كان ضحية حرب متواصلة ليس لديها دلائل خاصة بها.

عرض العشوائية في اختيار اللون بوصفها تتناقض مع شخصيّة الوالد تتكرّر في عدد من الرسومات. في رسمة إضافية (صورة 8) يتم تكبير صورة الوالد إلى الحجم الكامل على الخيش. الشخصية تغمرها ألوان أحادية. وتظهر على القماش تمزّقات وشروخ ملوّنة صُنعت بسكّين يابانية. تمزيق القماش هو جزء من طقوس الحداد في الهلاخا (التقاليد الدينية) اليهودية. يعقوب الذي مزّق ثيابه بعد أن أبلغوه بوفاة ابنه يوسف قام بأوّل تمزيق في التوراة، (التكوين 37: 34). وفقًا لشهادته، يستعير عزي هنا من النص اليهودي. وهو يجري تمزيقًا في القماش من خلال إجراء قلب للأدوار: بدلا من الوالد يعقوب الذي يمزّق الثوب لأجل ولده، يمزّق عزي الثوب لأجل والده. تمزيق القماش لا يخلق إحساسًا بالألم الصادق الخالص، فقسم منه فقط يبدو حقيقيًا بينما قسمه الآخر يبدو كاذبًا. يدمج عزي ما بين الشروخ في القماش، شروخ متخيّلة تمّت بواسطة استخدام لألوان داكنة وتظليل. الزركشة اللونية المألوفة في فنّ البوب آرت (Pop Art) تشوّش في هذه الحالة شعور الحداد، الألم والحقيقة.

هناك عدد قليل من الرسومات التي لا يحافظ عزي فيها على الصورة الأصلية. بدلاً من ذلك، ينسخ شخصية الوالد فقط، يموضعها في مساحة لونية جدًا، ويضع في مقابلها نصوصًا بالإنجليزية تشدّد على كون الوالد جنديًا ميتًا. في رسمة لونية جدًا (صورة 9) تظهر شخصية الوالد على مساحة من الرسم التعبيري، تملؤها النقاط الملوّنة وفوقها كُتب بالإنجليزية باللون الأسودPAPA IS A DEAD SOLDIER . رسمة أخرى من السلسلة نفسها (صورة 10) يتمّ تقسيمها إلى عدد كبير من المربّعات الملوّنة التي تخلق صورة شبكة تظهر فيها شخصية الوالد المأخوذة من الصورة عدة مرات، بحجم صغير نسبيًا. على هذه الرسمة، أيضًا، هناك مسحات تعبيرية بالفرشاة وقد كُتب بحروف ملوّنةMY DADDY IS A DEAD SOLDIER . بينما في رسمة أخرى (صورة 11) تُقسّم مساحة الخيش إلى شبكة عليها مربّعات مختلفة، قسم منها محدّدة باللون وآخر فارغ، بينما تأخذ مسحات الفرشاة الحادة العينَ إلى القسم الثاني من الخيش. هنا تقف شخصية الأب وحيدةً حيث تتموضع على مساحة خردليّة أحاديّة اللون وفوقها سماء سوداء وشمس حمراء داكنة. على الرسمة كُتبDADDY IS A DEAD SOLDIER.

هذه الجمل الإنجليزية التي تشير إلى موت الوالد تخلق ارتباطًا بإحدى الميزات المركزيّة للتصوير في العصر الحديث، بالاستناد إلى كتابات رولان بارت النظرية، وهي سيرورة التداعي التي تؤلّف المقولة التصويرية. يشدّد رولان بارت في كتاباته على سيرورات التداعي الخاصة بالتصوير، أي إخضاعها لمعنى ثانويّ بشأن المقولة التصويرية التي تتمّ عبر مختلف مستويات إنتاج الصورة. هذه الشيفرات المُرتبطة بالتداعي تقوم، أيضًا، على حالات، أي إيماءات الجسد الظاهرة في الصورة، الأشياء التي تظهر فيها والنصّ الظاهر فيها أو الذي يرافقها كعنوان. بفضل تلك الشيفرات الخاصة بالتداعي فإنّ قراءة الصورة هي تاريخيّة دائمًا، ومتعلقة باللغة والثقافة. لغرض تأكيد ذلك يكتب بارت:

"لا يمكن فهم الصورة بدون قولبة فورية. أي، ليس فقط أنّ الصورة تحظى بتحقّق كلاميّ حين تُفهم، بل إنها تُفهم فقط حين تتحقّق كلاميًا".[12]

إذًا، فشخصيّة الوالد الجنديّ تظهر في الصورة الأصلية وبعد ذلك في تخطيط في الأعمال الفنيّة نفسها، وبذلك فهي تمرّ تأطيرًا فوريًا وتُفهم حرفيًا وتتجسّد بهذا الشكل. حتى قبل أن نقرأ النصّ فعليًا، نحن نقرأ عمليًا كلمة "جندي" في الصورة/التخطيط في حين تقسم هذه القراءة مشاهدي النص إلى مجموعات لغويّة، مجموعات لغة، مجتمع وثقافة.

ولد أسد عزي في شفاعمرو، مدينة مختلطة يتألف سكّانها من المسيحيين، الدروز والمسلمين، داخل فضاء ثقافي عربي وهوية عربية قائمة في المكان منذ أجيال. عزي هو خرّيج جامعة حيفا وجامعة تل أبيب، يعلّم في مدرسة الفنون في كلية بيت بيرل، يعيش ويعمل في يافا، ناشط في الثقافة الإسرائيلية وينتج باللغة العبريّة منذ ثلاثين عامًا. لقد كُتب الكثير عن مسألة هويّة عزي كفنّان درزي عربي ينشط في إسرائيل، ولكن يجب، في سياق هذا المعرض، التشديد على الفضاء الدلالي للغتين العربية والعبرية عمومًا، وشكل حضورهما في حقل الفنّ المعاصر.[13] 

يكتب عزّي، بالإنجليزية، "والدي جندي ميّت". ليس بالعربية ولا بالعبريّة. كدالّ يقع خارج المنظومة اللغوية التي ينشط فيها. على المستوى اللغوي الظاهر والمكتوب، لا تظهر كلمة "جندي" العربية في الأعمال ومثلها كلمة "חייל" العبريّة. ولكن على المستوى الأولي، في لحظة رؤية الصورة وتجسّدها حرفيًا، تحضر الكلمتان بشدّة كبيرة. [14]

عزي يعي المعنى اللغوي لكلمة "جندي" وكذلك معناها الثقافي والسياسي باللغتين، وهو يضع في مقابلهما اللغة الإنجليزية كفضاء وسطيّ، كلحظة من الإرجاء. في هذا السياق، إنّ اللغة الإنجليزية ليست لغة أجنبية فقط، غير محلّية، للوهلة الأولى هي حيادية وكونيّة تسيطر على عالم الفن، ولكنها لغة مشحونة جدًا، تندرج ضمن الظروف التاريخية للانتداب البريطاني مع 1948 ومع الفصل الصادم بين الفضاء العربي والفضاء الإسرائيلي.

كلمة "Soldier" بالإنجليزية التي تظهر في الأعمال تشكّل تشويشًا، عرقلة ورسم حدّ مقابل التأطير الفوري لكلمة "جندي" بالعربية و"חייל" بالعبرية. هذا التشويش يمنع لوقت قصير تملّك هاتين اللغتين للحالة ثقافيًا وسياسيًا، بكل ما يعنيه هذا الأمر. هذا التشويش يخلق إرجاءً أو فترة وسطية تتيح قراءات مختلفة خلال مشاهدة الرسمة. يشير هذا الإرجاء إلى انفصام لغويّ، ثقافيّ وسياسيّ ويطرح أسئلة بخصوص التملّك، الانتماء، الهويّة والتماثل.

 

رسومات الابن البكر والمسدّس

تظهر في سلسلة الأعمال الصورة الثانية، وهي صورة من الألبوم العائلي يظهر فيها الفنّان طفلا طويل الشعر ويحمل مسدّسًا. في هذه السلسلة لا يحافظ عزي على مقاييس الصورة الأصلية فحسب، وإنما يُحييها ويحوّلها، بناء على ذاكرته، من صورة بالأسود والأبيض إلى صورة ملوّنة. وهي صورة لونيّة غير تعبيرية، بل إنّها واقعية أكثر بطابعها وهدفها خلق منالية للمشهد الأصلي وخلق إمكانية للعودة إليه.

منالية المشهد الأصلي تتحوّل إلى موضوع للرسم حين يستخدم عزي في ثلاث رسومات الموضوع الأصلي الظاهر في الصورة، أي، قماش القمصان التي كان يرتديها كل واحد من الأطفال لحظة التصوير (صورة 12، 13، 14). عزي يعود إلى بيته في شفاعمرو، إلى خزائن البيت، ليعثر على القمصان التي كان يرتديها هو وأخوته في طفولتهم. فيقوم بقص مربع من كل قميص ويخلق في كل واحدة من الرسومات منظومة زوجية حيث تظهر في أحد طرفي القماشة الصورة التي يبدو فيها عزي وأخوته الصغار وهم يرتدون القمصان المخططة، وفي طرفها الآخر يظهر مربّع من القماش المخيّط، في عيّنة مماثلة لقميص أحد الأطفال في الرسمة. مربّع القماش الأصلي يبدو أحيانًا كستارة تخفي شيئًا وراءها، وفي أحيان أخرى كفضاء هندسيّ مرسوم مُجرّد. خلفية شخصيات الأطفال تختلف من رسمة إلى أخرى: في إحداها تبدو الفرشات المرسومة خلف الأطفال، الخلفية في الثانية مؤلفة من مسحات فرشاة أحادية اللون، وفي الثالثة تظهر إلى جانب الأطفال مرآة تتكئ على الحائط وفي داخلها تلوح صورة لشخصية الوالدة وهي تحمل طفلا. مقابل الحفاظ المشدّد على المقاييس التصويرية في الأعمال التي تقوم على صورة الوالد، يظهر هنا أن ثمّة بحث وتساؤل بشأن الصورة نفسها. عزي يذكر ظروف الصورة جيدًا وحقيقة أنّ المصور، حبيب، اليهودي من أصل عراقي، طلب ألا يصوّب المسدس نحوه بل جانبًا. ولكن على الرغم من ذلك، فيظهر أنّه لا يعتمد على ذاكرته تمامًا، وعليه فإنه يموضع المشهد في عدد من الإمكانيات التي تروح تنأى عن الصورة الأصليّة.

مسألة المنالية والإخفاء قائمة، أيضًا، في صورة إضافية من السلسلة نفسها (صورة 15). الرسمة مقسمة، أيضًا، إلى قسمين: قسمها الأوّل يضم الأطفال الثلاثة وخلفهم الفرشات البيتية، بينما في القسم الثاني مساحة مرسومة سوداء وفوقها عيّنات ملوّنة من سجّادة مرتّبة كدلائل حرب. عيّنات السجادة الملفوفة هي جزء من لعبة أطفال، يذكُرها عزي منذ الطفولة. في عمل آخر(صورة 16) ، يواجه عزي الرغبة في العودة إلى المشهد الأصلي. وهو ينقل شخوص الأطفال الثلاثة من داخل البيت المحميّ إلى مساحة ملونة تعبيرية تظهر فيها مسحات الفرشاة بوضوح. المسدّس موجّه إلى يمين الرسمة، حيث تظهر بالإنجليزية جملة "IMAGE IS NOT AVAILABLE"، أي أن الصورة ليست في المتناول. وهي جملة تظهر في مواقع إنترنت كثيرة وتحتوي على لوغو صورة أو جملة لصورة لكن الرابط لا يقود إلى الصورة المطلوبة.

يشير بندكت أندرسون إلى وظيفة الصورة في بناء الذاكرة البيوغرافية "خلفًا في الزمن". الصورة ليست سوى أكثر الشهادات موثوقية في المخزون الحديث الضخم للشهادات الوثائقية التي تصف تواصلا متخيّلاً معينًا في الذاكرة، وتشير إلى فقدانه في الوقت نفسه. من داخل هذا التغريب تنشأ فكرة الشخصية والهوية التي يجب سردها نظرًا إلى أنّه لا يمكن تذكّرها. (أندرسون، 1991، 240) [15]

إذًا، فالقصّة البيوغرافية تستند إلى تواصل من الصور التي تخلق استمرارية متخيّلة وكمالا متخيّلا. لكن عزي يعي انعدام إمكانية العثور على عزاء في وعي الطفولة المتخيّلة فيبني في الرسمة منظومة دلاليّة باللغة العربية، تتألف من أجزاء الكامل، من أنصاف.

كلمة "يتيم" بالعربية تعني أيضًا فردًا ومتميّزًا. يدلّ اليتيم على الجزء الناقص من شيء أكثر كمالا، واليتم هو أيضًا تعبير عن الجزء الناقص في زوجية والديه. كلمة مسدّس بالعربية هي أيضًا "فرد" وتعني "نفرًا عسكريًّا"، وحيدًا، متميّزًا، وقسمًا من زوج. المسدّس هو فرد، أي وحيد – سلاح يطلق طلقات فردين، رصاصة تلو الأخرى، وهو معاكس للبندقية التي تطلق رشّات. لكنه يدلّ، أيضًا، على الجزء الناقص – فرد، واحد من زوج، حين كان المسدس في الثقافة العربية، تاريخيًا، يوضَع بجانب السيف، وكذلك، ظهور الفنّان بمظهر طفلة شعرها مشبوك بمشبك حريريّ هو ظهور متميّز، لا شبيه له، أو بكلمات أخرى، يقول ظهوره هذا إنّه "انفرادي"، فرد ومتميّز.

يخلق عزي منظومة كاملة من الأنصاف، من أجزاء هويّة لا تؤلّف كمالا واحدًا، وهم متميّزون بكونهم أجزاء وبتناصّهم مع الكامل المتخيّل. عزي يعود إلى هذه الصورة كصورة مؤسّسة وكجرح يرفض أن يندمل. مقابل التكتّل المتخيّل للأيتام الثلاثة المتماثلين بقمصانهم وبحركة جسدهم، في إطار العائلة النواة، يضع الفنّان التفكيك، الجزئيّة التي لا تخلق أبدًا كاملا متخيّلا واحدًا.

 

رسومات الابن المكمّل والوالدة

في سلسلة الرسومات التي تظهر فيها الوالدة والابن صياح واقفين معًا، يبرز موقف فنيّ لدى عزي، وهو فصل العلاقة بين الصورة الأصلية وبين سلسلة الرسومات التي تقوم عليه. يتأسّس هذا الموقف على ثلاثة ميزات: أوّلا، عزّي يفصل تمامًا صورتي الوالدة والابن صياح عن مجموعة أفراد العائلة والأصدقاء ويموضعهما في فضاء رسمي منفصل. ثانيًا، بعد أن يقصّ عزي صورتي الوالدة والابن من الصورة الأصليّة، يحوّلهما إلى صورة لرجل وامرأة غير واضحي العمر. ثالثًا، يشير فعل الرسم في هذه الأعمال إلى التحرّر من مشهد التصوير، والتمركز في تجربة الرسم التعبيري-المادي الذي يتمّ جزئيًا بالأصابع.

يظهر في رسمة واحدة فقط (صورة 17) التخطيط الأصلي كاملا بالأسود والأبيض. لكن هذا التخطيط يتحوّل إلى خلفية، حيث يتمّ في مقدمة الصورة نسخ صورة الوالدة والابن فقط، بشكل لونيّ. هناك لونية دراماتيكيّة تظهر في الرسمة: السماء صُبغت بالكحلي وفستان الوالدة أيضًا كحلي، لون البزة العسكرية بني، ولون القبعة والحذاء أحمر. هذه اللونية تتجاوز الشخوص التي خُصّصت لها، وهناك نقاط من الألوان تسيل من الشخوص نحو الجزء السفليّ من قماش اللوحة.

لاحقًا، يفصل عزي تمامًا صورتي الوالدة والابن عن سائر أفراد العائلة، وهما تتحوّلان إلى رجل يقف إلى جانب امرأة. في رسمة مدهشة بلونيّتها(صورة 18) تبدو صورتا الوالدة والابن مقتلعتين حين تظهران على مساحة لونية سوداء. فستان الوالدة أسود، وبزّة الابن بلون خردلي فوسفوري، حذاؤه، قبّعته وشعره أخضر، وعيناه فقط ممحيّتان.

في عدد من الأعمال يستخدم عزي أوراقًا مأخوذة من دفتر رسم للأطفال وعليها تخطيطات صور متحرّكة. في إحداها (صورة 19) تطلّ بين صورة الوالدة والابن صياح، خطوط ترسم صورة لطفل ورجل امرأة في حذاء ذي كعب. القسم العلوي من الرسمة هو مساحة رسم تعبيرية باللون البنفسجي والرمادي. وجه الأم مرسوم بعدّة بقع لونية، ووجه صياح هو مساحة لونية بدون عينين، يزيّنه شاربه فقط. بشكل مفاجئ وخلافًا للصور في رسومات أخرى تمسك صورة الجندي بكعب بندقية، لكنّ البندقية لا تظهر كاملة وهي تتحوّل فيما بعد إلى بقع لونيّة منفردة. 

صورتا الوالدة والابن ممحيتا الوجه تظهران، أيضًا، في اعمال على ورق مأخوذ من برنامج AUTOCARD وهو برنامج غرافي للمهندسين. في رسمة على ورق (صورة 20) تبدو صورتا الوالدة والابن في أكثر الرسومات تعبيرية عنهما. الجزء العلوي بمثابة سماء باللون الكحلي في بقع ثائرة. وجه الوالدة يبدو كعجينة من اللون وجسمها ووجه الابن يظهران كبقعة لونية واحدة. في الخلفيّة تظهر جملة بالعبريّة: جامعة تل أبيب، كلية الهندسة،  قذف أجسام، أسلوب أوروبي، وغيرها. هذا الحضور الوحيد للغة العبرية في المعرض يقترح، إذًا، فضاء اغترابيًا وتقنيًا هو بعيد جدًا عن الجمل الشخصية بالإنجليزية التي تشهد على موت الوالد وتروي عنه، أو عن رسالة باللغة العربية موجّهة إلى الوالد وتظهر وحدة الابن وهشاشته. هناك منظور وتقنيّات رسم مشابهة في رسمة أخرى (صورة 21) على ورق مأخوذ من البرنامج نفسه، حيث تظهر فيها أيضًا سماء تعبيرية، ووجه الوالدة المرسوم بعدد من بقع اللون للإشارة إلى ملامح الوجه والعينين، في حين أنّ وجه الابن ممحيّ تمامًا.  

وضعية جسد الرجل الجندي الواقف إلى جانب صورة المرأة هي إيماءة جسدية تعرف أنّها مرئية، إيماءة تعي أنّها علامة متفق عليها للرجولة، الثبات والسلطة. الجندي يقف بثبات، طويل القامة وينظر إلى المشاهد مباشرة. عزي يشوّش إيماءة الجسد هذه حين يشدّد على رجليّ الجنديّ النحيلتين ويسبغ عليه طابع فزّاعة، يكاد يكون كاريكاتوريًا. المعالجة الرسميّة تشدّد على طابع الفزّاعة هذا، حيث إنّ يد الجندي مثلاً ليست مرسومة حتى النهاية، وهي تبدو مقطّعة وضعيفة. اللون يسيل من جسد الجندي ويفرغ منه فيبدو شفافًا، مخترقًا، هشًا ومكشوفًا تمامًا. الوجه الممحيّ وسيولة اللون يشوّشان صورة المرأة أيضًا – وهكذا تبتعد الصورتان الواحدة عن الأخرى وتخفت العلاقة الشعورية بين الوالدة والجندي، إلى أن تصبحا تدريجيًا إشارتين فقط، عديمتي المعنى المادي والحضور الواقعي القائم في الصورة الأصليّة.

 هذا الموقف التعبيري في الرسم ونقاط اللون التي تنقط من الصور في هذه السلسلة تختلف جوهريًا عن الأحادية اللونية التصويرية التي ترافق رسومات الوالد واللونية الواقعية لرسومات الطفل مع المسدّس. يبدو أنّ عزّي يقوّض في هذه السلسلة منظومتي سلطة قائمتين في الصورة الأصليّة: أوّلا، الجنديّة كمصدر لسلطة الوالد، وثانيًا سلطة الوالدة التي تؤسّس لابنها مواصلة طريق الوالد مقابل كونها أرملة.

***

صورة الوالد الجنديّ، صورة الابن البكر وصورة الابن المكمّل تخلق في الصور الأصلية تواصلاً من الجندية، دائرة مغلقة من الذكورية التي تبدو ظاهريًا لبّ قوّة وتكتل العائلة النواة. الصور الأصلية تعرض علينا وضعية من الثبات، الشعور بالأمن المؤسّس على الشعور بـ"أنّه كان هناك" الذي يرافق لحظة التصوير نفسها. في مقابل الشعور بالثبات يدّعي بارت بأنّه يجب فحص العلاقة بين الصورة وبين الموت:

"صحيح أنّ الصورة هي شاهد، لكنّها شاهد على ما لم يعد موجودًا. حتى لو كانت الذات المصوّرة لا تزال حية، فإن الصورة هي لحظة واحدة لتلك الذات، وتلك اللحظة لم تعد موجودة. كل فعل للقيام بالتصوير والتأمّل فيه هو، أيضًا، رمزيًا وبشكل مكبوت، ملامسةٌ لما لم يعد موجودًا، أي للموت"[16]

موقف عزة الخاص بالرسم يتعاطى مع لحظات الفراق، مع ما لم يعد موجودًا بعد، مع الذاكرة البيوغرافية التي تتوق إلى لحظة من الحقيقة، اليقين. دوريّة العودة إلى الصورة الأصلية في الأعمال تعبّر عن سيرورات بحث متكرّرة كفعل حداد مستمرّ ليس فيه كمال ولا عزاء. هذا البحث الجريء والحاد يكشف فضاء البيت الخاص والحميم، بما يشمل من دقائق الشعور الثائر بين الوالد، يُتم الابن، الابن المكمّل والوالدة، من خلال كشف الثمن الشخصيّ والضحية العائليّة الكبيرة التي دُفعت في سبيل تلك "الجندية" التي ترافق صور العائلة كظلّ ثقيل، كنذر لا يمكن إيفاؤه.

 

طال بن تسفي، تعدّ أطروحة الدكتوراة في جامعة تل أبيب في موضوع: "تمثيلات النكبة في الفنّ الفلسطيني". قيّمة معارض في جاليري هاجر للفن في يافا (2001-2003) www.hagar-gallery.com، وقيمة معارض في جاليري صندوق هاينرخ بيل (1998-2001). من ضمن إصداراتها: هاجر-فنّ فلسطيني معاصر، (2006)، إصدار جمعية هاجر. سير ذاتية، 6 معارض فردية في جاليري هاجر للفن، (2006) إصدار جمعية هاجر. كتالوج المعرض "لغة أم"، (2004) لدى: חזות מזרחית/ שפת אם, הווה הנע בסבך עברו הערבי, יגאל נזרי (עורך), הוצאת בבל، والمزيد. صور ذاتية – فنّ نساء فلسطينيات، (2001) طال بن تسفي وياعيل ليرر (محررتان)، إصدار الأندلس.

 

 

 



[1] طال بن تسفي، 2009. "الذاكرة التصويرية لدى أسد عزّي"، من كتالوج المعرض "أسد عزّي، والدي جندي"، متحف رمات غان.

[2] في موقع "يد لبانيم هدروزيم"، جاء: "ولد صياح ابن إبراهيم عام 1923 في جبل الدروز في سوريا. عام 1948 هاجر للبلاد وسكن في شفاعمرو. عام 1956 تجنّد لحرس الحدود وانضم إلى كتيبة وُضعت في الشمال. بتاريخ 30.5.61، حين كان في قاعدة مشمار هيردين على الحدود مع سوريا، أطلقت عيارات نارية باتجاه نقطة المراقبة في الثكنة. مع سماع الطلقات نزل صياح باتجاه نقطة المراقبة لغرض تقديم المساعدة وفحص ما جرى. في طريق العودة أطلق قنّاص سوري رشقة إضافية أصابت رأس صياح وقتلته على الفور. أجريت جنازة صياح في شفاعمرو، ووفقًا لطلب العائلة نُقلت عظامه لاحقًا إلى المقبرة العسكرية في عسفيا. ترك وراءه أرملة، أكابر، في الشهر الثالث من حملها، وأربعة أبناء".  http://www.druzim.co.il

[3] يشير بيني موريس إلى أنّه في 14 تمّوز 1948 بعد قصف شديد على الحارة المسلمة في شفاعمرو دخل جنود اللواء 7 إلى المدينة ووجدوها فارغة تقريبًا من سكّانها المسلمين. نزح الآلاف شرقًا إلى صفورية. وفي اليوم التالي ليلة 15 تموز، قصفت طائرة إسرائيلية صفورية، قتل عدد من السكان واندلع الذعر في القرية حيث طُرد معظم سكانها شمالا إلى لبنان. في مرحلة لاحقة تمّ تدمير القرية وأقيمت على خرائبها الحديقة الوطنية تسيبوري. للتوسّع، يُنظر:

Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, 1947-1949 (Cambridge, Cambridge University Press, 1989).

[4] صبري جريس، 1966، العرب في إسرائيل، إصدار: الاتحاد، ص 24.

[5] عام 1956 بدأ التجنيد الإجباري للدروز. للتوسّع، يُنظر:

הלל כהן, 2000. ערבים טובים, הוצאת כתר, עמ' 189-199; מריה רבינוביץ, 2008. "שילוב בני העדה הדרוזית בצה"ל והשתלבותם בשוק העבודה"، بروتوكولات الكنيست، القدس؛ סלמאן פלאח, 2000. הדרוזים במזרח התיכון, משרד הביטחון, ص 227-226.

[6]  من "مكان الذاكرة وذاكرة المكان – هل قتلتم أحدًا هناك؟" مجلّة الكرمل – رام الله، العدد 33، خريف 1997.

[7] أحد المشاريع الفنية القليلة التي تعاطت مع تركيبة الجندية في المجتمع العربي هو سلسلة "قصّاصو الأثر" للمصوّرة أحلام شبلي (2005). السلسلة التي تضمّ 85 صورة توثّق الجنود البدو الذين يخدمون في الجيش. شبلي تتابع بعدستها نشاط الجنود البدو النظاميين في الجيش، في أماكن سكناهم الخاصة وفي الحيّز العام الذي يحيطهم. في النص المرافق للمعرض أشارت شبلي إلى أنّ السلسلة تبحث في الثمن الذي تُجبَر الأقلية على دفعه للأكثرية الحاكمة، ربّما من أجل أن تُقبَل، أن تغير هويّتها، أن تواصل العيش، أو ربّما كل هذه معًا بل أكثر. يُنظر كتالوغ المعرض:

http://www.ahlamshibli.com/Works/Trackers.htm

Ahlam Shibli, 2007. Trackers, edited by Adam Szymczyk.

وكذلك النصّ المرافق للمعرض: John Berger, Hold Everything Dear (London, Verso, 2007).

[8] נעים עריידי, 1988. חיילים של מים, הוצאת הסדרה הפתוחה, עמ' 114.

[9] حول مسرحية "الأمر"، يُنظر بتوسّع:  http://alniqabtheatre.com

[10] مسرحية "صلاح يعود من الجيش" هي إعداد لكتاب "Johnny got his gun" للكاتب دلتن ترمبو. إخراج وترجمة صالح عزام، تمثيل مجيب منصور. شاركت المسرحية في مهرجان "مسرحيد"، عكا، 2003 وفازت بجائزة النصّ الأجرأ، من مجلّة "ترفزيون" الأسبوعيّة، يُنظر بتوسّع: http://alniqabtheatre.com.

[11] بريجيت بلتشر، 1995. غيرهارد ريختر، كتالوغ معرض، متحف إسرائيل.

[12] Roland Barthes, “The Photographic Message,” in Image – Music – Text (New York, Hill and Wang, 1977), 28.

[13]  عن أسد عزّي يُنظر بتوسّع:

Gal Ventura, 1998. Identity Problems in the work of Asad Azi, Master's thesis, University of Jerusalem [Hebrew]; Ganit Ankori, 2006. Palestinian art, Reaktion Books; Meir Ahronson, 1998. Asad Azi, Self Portrait, Ramat Gan Museum; Meir Ahronson, 1999. Asad Azi, Journey to the Chronicles, Ramat Gan Museum; Neta Gal Azmon, 2005. Foreion Language: Asad Azi and Meir Pichhadza, Um al Fahem Gallery.

[14] الفضاء الدلالي لصورة "الجندية" هو مميّز بارز في الفنّ الإسرائيلي. منذ فناني 1948 وحتى اليوم تعكس الجندية أساطير، قيمًا وآراء تتعلّق بالثقافة القومية الإسرائيلية، التاريخ العسكري لحروب إسرائيل، تجنّد الشباب وفكرة "يجدر الموت لأجل وطننا"، مشاعر الضحية والثكل، ومواقف نقدية حول الاحتلال الإسرائيلي لمناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، الانتفاضة الفلسطينية، حرب لبنان، استمرار الاحتلال، المستوطنات وغيرها. هذه المواقف النقدية هي جزء من رواية تاريخ الفن، وهي تتحوّل سريعًا إلى المتعارف عليه الثقافي في الفن الإسرائيلي. في كلّ تسلسل صور "الجندية" هذه يظهر الجنود والجنديات كيهود فقط أو كجنود العدو. تمثيل الجنود العرب الدروز أو البدو، مواطني إسرائيل يكاد يكون غير موجود أبدًا في الفنّ الإسرائيلي منذ بداياته وحتى اليوم. وهكذا يعكس الفنّ الإسرائيلي ويحدّد منظومة صور مغلقة تعزّز الثقافة القومية القائمة على هوية يهودية-عربية، فقط.

 

يُستثنى ممّا ورد صورة وحيدة في كتاب "הישראלים" للمصوّر ميخا كريشنر. وهي صورة "قبر الكولونيل نبيه مرعي" في حرفيش، التي نشرت في "معاريف" عام 1996 (نبيه مرعي، ولد في القرية الدرزية حرفيش، كولونيل في الجيش الإسرائيلي، قتل برصاص فلسطيني في قطاع غزة خلال مواجهات، في فترة مواجهات النفق). في مركز الصورة تظهر لافتة القبر وتحته زهور. على اللافتة شعار الجيش الإسرائيلي، رقم شخصي، رتبة وتاريخ الدفن 27.9.1996 والنص التالي: "وحدة تخليد الجندي قسم إعادة التأهيل – وزارة الأمن". الصورة محروقة قليلاً ومذهبة بالبرتقالي-الذهبي. كرشنر يعمل على الصورة، ويوزّع بين باقات الزهور بقعًا لونية خضراء كألوان إخفاء، وعلى الخلفية المذهّبة يخلق بقعتي لون رماديّتين وبينهما يلصق قصاصات من صحف تؤلّف عبارة "ابن البلاد". للتوسّع، يُنظر:

קטלוג "מיכה קרישנר - הישראלים", 1997 הוצאת הד ארצי.

[15] Benedict Anderson, Imagined Communities, Reflections on the Origin and Spread of Nationalism (London, Verso, 1991), 204.

[16] Roland Barthes, “On Photography,” in The Grain of the Voice: Interviews, 1962-1980 (New York, Hill & Wang, 1985), 356.

Hagar Art Gallery | Heinrich Boll Foundation | Palestinian Art | Curator: Tal Ben Zvi | Catalogues
powered by EPA-multimedia